إننا لا نعلم .. ولكننا نخمن فقط
منهجية الشك فى النظريات العلمية
بقلم / أحمد فؤاد باشا
نائب رئيس جامعة القاهرة
مفكرة الإسلام
منهجية الشك فى النظريات العلمية
بقلم / أحمد فؤاد باشا
نائب رئيس جامعة القاهرة
مفكرة الإسلام
يقول العلماء عن الشك المنهجى إنه أول مراحل التفكير العلمى .. وهو شك مؤقت الغرض منه الوصول إلى مزيد من الدقة وليس الشك المذهبى أو المرضى الذى يبدأ فيه الإنسان شاكاً وينتهى شاكاً .. وسنأخذ مثالين أحدهما غربى والآخر إسلامى فى هذه القضية ونقارن بينهما .. فكارل بوبر الذى يباهى به الفكر الغربى كأحد عمالقته فى الفكر العلمى وفلسفة العلم .. وهو كذلك .. يعرف العبارة العلمية بأنها: [العبارة التى يمكن إخضاعها بإستمرار لمعيار الدحض والتكذيب] .. وكان الوضعيون يعرفونها بأنها: [العبارة التى يمكن التثبت منها بالمشاهدة والتجربة] ..
وهكذا فإن بوبر يقول: [أنا لا أثق فى هذا القانون بل أتهمه] .. فهو قانون غير صحيح وسأظل أبحث عن التجارب التي تثبت تكذيب هذا القانون ودحضه .. وطالما أنه ثابت لعمليات الهجوم هذه فهو صحيح وسأتعامل معه .. ولكن في إعتقادى أنه قانون غير مؤكد .. وسيأتي يوم أنجح فيه فى دحض هذا القانون والوصول إلى قانون أقوى منه قادر على تفسير الموضوعات والظواهر العلمية ..
وعليه فإن بوبر لا يؤمن بحقيقة علمية مطلقة فيقول: [إننا لا نعلم .. ولكننا نخمن فقط] أهـ ..
وفى نفس الموضوع الذى تحدث فيه بوبر يقول إبن الهيثم فى معالجته لقضية الشك نفسها: [إني لم أزل منذ الصبا مروياً فى إعتقادات الناس المختلفة وتمسك كل منهم بمعتقده من الرأى .. فكنت متشككاً فى جميعه موقناً بأن الحق واحد وأن الإختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه .. فلما كملت لإدراك الأمور العقلية أنقطعت إلى طلب معدن العلم .. ووجهت رغبتى وحرصى إلى إدراك ما به .. تنكشف تمويهات الظنون وبعثت عزيمتى لتحصيل الرأى المقرب إلى الله .. فرأيت أننى لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية] أهـ ..
ويقول إبن الهيثم أيضاً فى مقالته .. الشكوك على بطليموس: [الحق مطلوب لذاته .. وكل مطلوب لذاته فليس يعنى طالبه غير وجوده .. والحقائق منغمسة فى الشبهات .. وحسن الظن بالعلماء فى طباع جميع الناس .. فالناظر فى كتب العلماء إذا إسترسل مع طبعه وجعل غرضه فهم ما ذكروه حصلت الحقائق عنده .. وما عصم الله العلماء من الزلل .. ولا حمى علمهم من التقصير والخلل .. ولو كان ذلك كذلك .. لما أختلف العلماء فى شىء من العلوم ولا تفرقت آراؤهم فى شىء من حقائق الأمور والوجود بخلاف ذلك .. فطالب الحق ليس هو الناظر فى كتب المتقدمين المسترسل مع طبعه فى حسن الظن بهم .. بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم المتوقف فيما يفهمه عنهم المتبع الحجة والبرهان .. لا قول القائل الذى هو إنسان المخصوص فى جبلته بضروب الخلل والنقصان .. والواجب على الناظر فى كتب العلوم إذا كان غرضه معرفة الحقائق .. بأن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه .. ويحيل فكره فى جميع حواشيه .. ويخصمه من جميع جهاته ونواصيه .. ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه .. فإنه إذا سلك هذه الطريقة إنكشفت له الحقائق] أهـ ..
هذا هو كلام إبن الهيثم وهو نفس كلام بوبر .. والفائدة منه أكبر وأعم .. فهو يقدم الشك العلمى فى منهج نقدى تجريبى قادر على بلوغ الحقيقة العلمية الجزئية بأكبر قدر ممكن من اليقين ..